عبد اللطيف

عبد اللطيف عبد الحميد.. سينما الحب والإنسان

كتب حسين روماني

 

لحظة قرارك الكتابة عن رحيل المخرج عبد اللطيف عبد الحميد 1954-2024 ستحاول أن تختار العبارات والمصطلحات اللغوية لتوازي لغته السينمائية، لكن المحاولة ستفشل عندما تدرك أنه رحل في ليلة ربيعية باردة النسمات تذكّرك بالريف الذي طالما تسلّق جباله واضعاً شخصياته فوقها تتنقل على الشريط السينمائي كانتقال الهواء بين الغابة والسهل، ليلة قسوتها أكثر بكثير من قسوة “ليالي ابن آوى” الفيلم الطويل الذي كان بمثابة العلاقة الجادة بينه وبين جمهور السينما في سورية والعالم ككاتبٍ ومخرجٍ متمكّن عام 1989، عقب تجارب أولى في موسكو أثناء سنوات دراسته للإخراج في المعهد العالي للسينما هناك عبر 3 أفلام قصيرة “تصبحون على خير”، “درس قديم” و “رأساً على عقب”، وأخرى بعد عودته سنة 1981 مع المؤسسة العامة للسينما بفيلمين تسجيليين قصيرين عام 1983 “أيدينا” و “أمنيات”.

 

 

ابن ريف اللاذقية الذي صعد سلّم الفن من درجاته الأولى عبر فِرَقِ الهُواة في التمثيل والعزف والغناء، ودرس الأدب العربي في جامعة تشرين وصل إلى نقطة تحوّل مهمة بدراسته للإخراج بالمعهد العالي للسينما في موسكو ضمن منحة نحو الاتحاد السوفيتي على نفقة الدولة السورية، خلال حقبة زمنية كانت العاصمة الروسية تعجّ بالشباب السوري الذي أصبح فيما بعد نواةً للسينما المتقنة التي أنتجها القطاع العام بعيداً عن المستوى الذي كان يقدمه إنتاج القطاع الخاص في ذلك الوقت، منهم الأساتذة محمد ملص، سمير ذكرى، ورياض شيا، اللذين تقاسموا مقاعد الدراسة والنقاش مع أشقائهم المصريين كالأساتذة محمد القليوبي، مصطفى محمد علي وغيرهم من العرب، مما ساهم في صقل الموهبة بقواعد أكاديمية سمحت لذلك الجيل بالتعرف على وجه حقيقي من وجوه السينما آنذاك، ومع عودتهم إلى الديار وعملهم كموظفين مخرجين في المؤسسة العامة للسينما اختاروا نسج لغة سينمائية لامست بيئاتهم الاجتماعية المتنوعة بعيداً عما قدمته السينما التجارية حيث تجري الأحداث في المدينة.

 

 

بالعودة إلى الراحل عبد اللطيف عبد الحميد فقد انتظر 7 سنوات فصلت بين تخرجه وجلوسه خلف الـ”مونيتور” مخرجاً لفيلمه الأول، عمل خلالها مخرجاً مساعداً في فيلم “أحلام المدينة” لمواطنه محمد ملص، وممثلاً للدور الرئيس في فيلم “نجوم النهار” أمام كاميرا المخرج أسامة محمد، إلى أن ودّع الثمانينات بفيلمه الروائي الطويل الذي تصدى لكتابته وإخراجه تحت مظلّة “سينما المؤلف”، نبش في البيئة الريفية ذات الجبال الموحشة القاسية والبراري المعتمة التي يقاطع صمتها عواء ابن آوى، جميع تلك التفاصيل كانت مناسبة لاحتواء بداية أحداث العمل في الزمن الذي سبق نكسة حزيران 1967، نرى تسلّط المزارع “أبو كمال” (أسعد فضة) على عائلته التي أذاقها طعم القهر والتعب فمنحت الرجولة أفرادها فرصة البحث عن الحرية بعكس الإناث، قسوة القلب هذه كسرتها هزيمة 1967 وسقوط المزيد من الأراضي تحت الاحتلال “الإسرائيلي”، ليشعر “أبو كمال” أنه المسؤول عن الهزيمة، ويحاول أن يغير سلوكه لكن بعد فوات الأوان، تلك البيئة عاد إليها أيضاً بفيلم “قمران وزيتونة” ولكن الزوجة هي المتسلطة هذه المرة.

 

 

تجوّلت سينما عبد الحميد بين أرجاء الشارع السوري، اقتنصت همومه ونجحت بالاتكاء على الزمن وأحداثه لتقفز بالمشاعر الإنسانية وأشكالها المتنوعة إلى الشاشة الكبيرة كعمل إبداعي بسيط وممتع لكنه عميق الرموز والأفكار لمن يبحث بين السطور، لامس الخطوط الحمراء ببراعة متقنة، وكانت العلاقات الإنسانية محور أفلامه سواء في الريف أو المدينة، فلا يمر شريط سينمائي موقع باسمه إلا وكان الحب متجلياً بين دقائقه كفيلم “العاشق” 2011 و”طريق النحل” 2017، ومع كل فيلم أخرجه كانت الحقبة الزمنية بظروفها متواجدة لتعطي صورة واقعية عاصر بها سورية قبل الأزمة وخلالها، نرى ذلك بوضوح في فيلم “خارج التغطية” 2007 وفيلم “أنا وأنت وأمي وأبي” 2015، وكما كانت الدراما متواجدة وقفت الكوميديا قبالتها خاصةً في فيلم “رسائل شفهية” 1991، حتى الطفولة وما يحيط بها كانت متواجدة بين أولويات ما قدمه، جميعها حصدت الجوائز المتنوعة من مهرجانات عالمية كمهرجان باستيا لأفلام البحر المتوسط ومهرجان قرطاج السينمائي، لكن التكريم من مهرجان دمشق السينمائي له وقع مميز على صاحب “ما يطلبه المستمعون”، تبنّيه للمشروع الإبداعي دفعه للوقوف كممثل أيضاً لتجسيد شخصيات عدة في أفلامه وأفلام غيره من المخرجين أمثال صديقه جود سعيد بفلمه “رجل وثلاثة أيام” 2017 الذي تبنّى موهبته قبل سفره لدراسة السينما في فرنسا، أحمد إبراهيم أحمد في فيلمه “ماورد” 2016.

 

 

لم تعرف الشلليّة طريقها نحو أعماله، حتى أن تلك الأعمال كانت بمثابة الفرصة لشباب موهوب أصبح نجماً في يومنا هذا، قائمة لانهاية لها من الأسماء التي تصدّت للشخصيات التي كتبها وأخرجها، فمن جيل الأساتذة فايز قزق، رنا جمول، موفق الأحمد وزهير رمضان، مروراً بجيل عبد المنعم عمايري، أمل عرفة، سلاف فواخرجي وديمة قندلفت، وصولاً إلى جيل يامن الحجلي، مرام علي وأيمن عبد السلام.

 

 

“الطريق” 2022 كان فيلمه الأخير الذي نال به العديد من الجوائز السينمائية المهمة، وبه انتهى طريق المخرج عبد اللطيف عبد الحميد بعد مسيرة حافلة بالإنسان وحكايته بأزمنة وأماكن مختلفة عبر 20 فيلماً، رغم أنه كان في مرحلة إعداد لمشروع جديد، لكن قلبه خانه ليلة الأربعاء 16 أيار فسكت وسكتت معه سينما سيفتقدها الجميع.

تابعونا على الشبكات الاجتماعية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المحتوى المشترك